نظرية الفطرة تشرح نظرية الضبط الاجتماعي من منظور إسلامي
أولا-
الفطرة
الفطرة
هي
الخلق الأول الذي يكون عليه كل موجود أول خلقه، أو هي الخلقة السليمة لم تشب بعيب،
قال الله تعالى: ﴿ إني
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا﴾ الأنعام،
الآية79. وقال الله
تعالى أيضا: ﴿ ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون﴾ يس،
الآية22.
والفطرة
تحوي جملة من القوى النفسية العامة والدائمة والاستعدادات العقلية، والطاقة
الروحية، التي تقف وراء السلوك الإنساني، والفعل الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية.
والإنسان
بما فطر عليه من حرية يمكن أن يغير من هذا الخلق، ويعدل فيه، ومع ذلك فلن يستطيع
أن يغير في أصل الفطرة وقوامها.
فالفطرة لا
تغيرها الظروف المادية ولا الظروف الاجتماعية ولا تنشئانها إنشاء، وإن كانتا
تساعدان على تحقيقها، فالطبيعة والحياة الاجتماعية لا تنشئان في كيان الإنسان شيئا
جديدا، لم يكن فيه بالاستعداد، وإنما تحققان رغبات وحاجات كامنة في فطرة الإنسان،
فاكتشاف النار مثلا، لم ينشئ الرغبة في طهي الطعام عند الإنسان وإنما أشبع تلك
الرغبة، كذلك فإن اكتشاف المؤسسة القضائية لم ينشئ في الإنسان الحاجة إلى العدل
وإنما اكتشافها أشبع تلك الحاجة.
1. الاستعداد
للخير والشر:
لقد خلق
الله الإنسان مفطورا على الإيمان وحب الخير، لكنه خلقه –في نفس الوقت- مزودا
باستعدادات متساوية للخير والشر، كما خلقه مزودا بقدرات كامنة فيه قادرة على
توجيهه إلى الخير وإلى الشر سواء، وجعل تبعة أعماله ومسؤولياته تقع عليه وحده،
ولقد أكد القرآن الكريم هذه القواعد في كثير من الآيات:
·
﴿ ألم نجعل له عينين
ولسانا وشفتين وهديناه النجدين﴾ البلد، الآية 7.
·
﴿هل أتى على الإنسان
حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه
سميعا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾ الإنسان،
الآية 1-3.
·
﴿ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب
من دساها ﴾
الشمس،
الآية 7-10.
من خلال هذه
الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى أن الإنسان بكل معالمها.. "إن هذا
الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة" مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه. ونعني بكلمة مزدوج
على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه، مزود
باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو
خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء، وأن هذه
القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: ﴿ ونفس وما سواها
فألهمها فجورها وتقواها﴾ .... ويعبر عنها بالهداية تارة أخرى ... ﴿وهديناه
النجدين﴾ .... فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد .... والرسالات والتوجيهات
والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك.
وهناك إلى
جانب الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان، هي التي
تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعدادات
الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر... فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها
وأضعفها فقد خاب: ﴿ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾.
وهناك إذن
تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه.
توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي
حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكاليف، ومنحة يقابلها واجب...
" لقد
أودع الله في الإنسان بصيرة أخلاقية تساعده على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، يستطيع
أن يميز بها بين الخير والشر والحسن والقبيح ويصدر بها أحكاما تقوم نوع السلوك
الإنساني وتحدد اتجاهه نحو الاعتدال أو الانحراف. وهذه البصيرة قد زود الله بها
الإنسان ليستطيع أن يواجه بها عملية الاختيار والانتقاء لكل ما هو نافع ومفيد
وملائم لطبعه من أشياء، وأن يسترشد بها أنماط السلوك الأخلاقية التي تبنى الفرد
وتشده نحو الجماعة، وتنأى به عن الانحراف والسلوك الشاذ وعما ينفر منه الطبع
الفطري السليم. ونور هذه البصيرة لا ينطفئ ولكنه قد يخبو ويذبل نتيجة أنماط معينة
من السلوك أو إهمال الأخذ بأوامر هذه البصيرة ولكنه سرعان ما يشتغل فينير لصاحبه
سبل الحياة وذلك عند إحساسه بالزاجر، أو يثور عنده إحساس الشعور بالألم والندم
عندما يرتكب بعض الجرائم. ومهما بلغت درجة انحراف الإنسان في سلوكه فإنه يجد نفسه
مضطرا في بعض الأحيان إلى الاعتراف بحب الخير وتقديس الفضيلة في ذاتها، وإن أعوزته
الشجاعة إلى الارتفاع إلى مستواها وممارسة السلوك الفاضل، ومما لا شك فيه أن رؤية
أي سلوك هابط أمامنا تثير لدينا نوعا من الاشمئزاز والنفور وسرعان ما نجد أنفسنا
نصدر أحكاما تلقائية بإدانة هذا السلوك الهابط واستحقاق صاحبه العقاب.
ونحن نكره
في أنفسنا عيوبنا الذاتية، وإذا كنا نبذل كثيرا من الجهد في تصحيح أخطائنا فإننا
سرعان ما نلتمس المعاذير لتبرئة أنفسنا مما قد نحكم عليه بالخطأ أو يعتقد الآخرون
أنه سلوك سيئ هابط. كما قد يشعر أحدنا بنوع من الخجل والخزي عندما تعرف الجماعة
التي يعيش معها أنه قد ارتكب جريمة أو خدش وجه الفضيلة بسلوكه الهابط. وهذا الشعور
مصدره الإحساس الداخلي الذي يستمد أساسا من نور هذه البصيرة الفطرية التي زود الله
الإنسان بها"[1].
الكائن
الذي لا يخطئ أبدا ولا يفعل إلا الخير فهو الملاك. وأما الكائن الذي لا يفعل إلا
الشر فهو الشيطان، الإنسان وحده المؤهل لفعل الخير أو الشر، للإيمان أو الكفر
للفجور أو التقوى، للهدى أو الضلال، يفعل ذلك بحرية إرادة واختيار، فقد يعرف الخير
ومع ذلك لا يفعله، وقد يعرف الشر ومع ذلك يفعله، ليس لأنه مفطور على فعل الشر وترك
الخير، وإنما لأنه مفطور على الاستعداد لفعل أي منهما حسب اختياره وإرادته، وقد
يفعل ذلك مكرها ولكنه إكراه خارجي وليس داخليا، إلا في حالة المرض الذي قد يصيب
بعض عناصر تكوينه.
2. الحرية
- الحرية
حقيقة مركوزة في الفطرة، فهي غير مكتسبة، فهي ركيزة من ركائز الفطرة لا تستقيم
فطرة الإنسان إلا بها، وبالتالي سيظل الإنسان ينفر من الاستعباد والقيود ويسعى
ليكون حرا.
- والحرية
تقوم على الاختيار الواعي للأفعال والتصرفات وربط للوسائل بالغايات.
- والحرية
بهذا المعنى تشمل الإرادة والشعور كما تشمل القول والفعل أي كل المجالات التي يمكن
أن تمارس فيها الحرية أو تظهر فيها.
- وحرية
الإنسان قد تنتهك، وذلك بالضغوط الخارجية التي قد تحدد أو تقيد من سلوكه ونشاطه
وأقواله، كما أنها قد تقيد أو توجه بالضغوط الباطنية التي تمارسها الحاجات.
إن
"مشكلة الحرية الإنسانية ترتبط بمشكلة التكليف من ناحية، وبمشكلة المسئولية
والجزاء من ناحية أخرى ... وقضية الحرية الإنسانية هي المدخل العقلي والشرعي إلى
قضية الثواب والعقاب، لأنه لا حساب ولا مساءلة إذا لم تكن هناك حرية على اختيار
الفعل أو ضده".[2]
ففي
ظل الحرية نستطيع أن نتكلم عن المسئولية الاجتماعية للفرد وعن الواجب، وعن القيم،
وعن معاقبة المجرم عن جرائمه ومكافأة المحسن عن إحسانه، وبدونها تصبح هذه القضايا
لا قيمة لها ولا أهمية، بل لا وجود لها.
وأمام
الخوف والإكراه يمكننا أن نتصنع الفضيلة، ولكن لا يمكننا أن نكون فضلاء حقيقة، لأن
الخوف والإكراه يسلباننا الكرامة.
ولكن
هذه الحرية التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى هي نفسها قد تكون عاملا في
تعويق الفطرة الإنسانية عن تحقيق أهدافها الإنسانية في الحياة إذا ما تركت بدون
توجيه، وبلا قيود.
فالحرية
لن تكون ميزة للإنسان، ومظهرا من مظاهر تكريمه، إلا إذا اتجهت إلى تحقيق الخصائص
الفطرية فيه، وإلا أصبحت مصدرا للضرر بالشخص الذي يمارسها وبغيره من الأشخاص على
السواء.
ففي
فطرة الإنسان استعداد لتقبل التوجيه، بل لتقبل القيود التي توجه الحرية وتحد من
الأنانية، فالمنطق يقول والواقع يؤكد أن الحرية التي لا يقابلها قيد أمر غير واقع
ولا وجود له.
يقول محمد
قطب: "القيد والحرية حقيقتان متجاورتان بل حقيقة واحدة ذات صورتين ...
حرية إزاءها قيد، وقيد إزاءه حرية، هذه الحقيقة البشرية ... ليس القيد في كفة، وفي
الكفة الأخرى الحرية. وإنما كل حرية لها قيودها، وكل قيد له حرياته، وفي كل من
الكفتين حريات وقيود ... والمفاضلة في واقعها ليست كما تضعها أوروبا والعالم الذي
غلبت عليه، ليست مفاضلة بين القيد والحرية، وإنما هي مفاصلة بين قيد وقيد، وحرية
"[3].
3. الحاجات
إن الحاجة
هي: حالة فطرية داخلية متغيرة، تشعر الإنسان بالتوتر كلما نقصت فيه درجة
الإشباع، بحيث تثير السلوك الظاهر أو الباطن للإنسان –في ظروف معينة- وتستمر في
الإثارة إلى أن تدفعه نحو الأهداف التي يعتقد أنها تحقق له الإشباع.
وهذا التعريف للحاجات يعني أن الحاجة هي حالة
ناشئة من الفطرة، فهي غير مكتسبة، وأنها تقترن بالحياة الباطنية للإنسان وليست هي
سلوكه الظاهر، فالسلوك الظاهر إنما هو تعبير عن تلك الحاجة ومؤشر عليها، وأن
الحاجة هي التي تثير شعور الإنسان وإحساسه بالنقص الذي يعاني منه كيانه في جانب من
جوانب مكوناته، وهو ما يثير الدافعية والإرادة والرغبة في الحصول على الإشباع
فيترتب على ذلك سلوك من الشخص. ومع ذلك فإن تأثير الحاجات في السلوك إنما يتم في
ظروف باطنية وظاهرية يمر بها الشخص.
وحاجات
الإنسان فيها ما هو نشط، وفيها ما هو كامن، وأن المواقف والظروف التي يمر بها
الإنسان قد تقوى من حاجة نشطة، وتجعلها أكثر إلحاحا أو العكس، كما أنها قد تستثير
الحاجات الكامنة لتنشط وتعمل، إلا أنها لا تخلق ولا تنشئ أي حاجة جديدة في
الإنسان لم تكن موجودة في فطرته بالقوة.
وأن حاجات
الفرد تكمل دور الركائز في تنظيم كل أوجه نشاطه كإنسان وتوجهه لتدعيم الفعل نحو
بلوغ الهدف، لهذا فنحن نسجل يوميا كيف أن أبحاث الإنسان إنما تحركها الحاجة الماسة
إلى حل المشاكل العملية.
وكل مدركات
الشخص وكل ما يعتقده ويؤمن به، وكل ما يفكر فيه، وكل ما يشعر به، وكل العادات
القديمة المترسبة في شخصه، وكل المهارات الجديدة التي اكتسبها هي أنشطة قد تأثرت –بشكل
أو بآخر- بالحاجات.
4. القابلية
للتوجيه
وإن مما
يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، هو قدرته على تنظيم الكثير من جوانب حياته
وضبطها وتوجيهها، وهو يفعل ذلك بوعي وإرادة وغرض، وهذه الخاصية منعدمة تماما عند
سائر الحيوانات، فالحيوانات إنما تؤدي وظائف فطرية بشكل نمطي رتيب، يتكرر باستمرار
وفق نظام لم تسهم في صياغته، وإنما تخضع له خضوعا كاملا، ولا تستطيع الخروج
عنه أو تعديله.
وكلما حاول
الإنسان أن يرتقي عن الحيوان فإنه يميل إلى أن يضع قواعد يلتزم بها ويعمل
بمقتضاها، هذه القواعد تطاع خاصة إذا كانت مجموعة من الأوامر قد أملتها مقتضيات
اجتماعية لا فردية، وإذا كانت مجموعة من النداءات يقذفها في شعورنا أشخاص يمثلون
من الإنسانية خير ما فيها.
هاتان
القوتان تتفاعلان في شتى مناحي النفس، ثم تنعكس على مستوى متوسط هو مستوى العقل،
من هنا يكون الامتثال ضروريا حتى لا يسير الإنسان وفقا لما تمليه عليه أهواؤه
ورغباته.
وبالامتثال
يحافظ الإنسان على القيم التي تحقق مصلحته والتي لا تتفق مع الاسترسال في إتباع
الأهواء والشهوات لما يلزم من ذلك من التقاتل والهلاك الذي هو مضاد لتلك المصالح
وهذا مشاهد من خلال التجربة البشرية، واستقراء أحوال الشعوب والمجتمعات، يبن أنه
لا يوجد شعب من شعوب الأرض قديمها وحديثها يمكن أن يعيش كل فرد طبقا لما تمليه
عليه أهواؤه ورغباته الذاتية دون أن يخضع لقواعد تضبط سلوكه.
بهذا يكون
الامتثال ضرورة أملتها مصلحة الإنسان، ويصبح الخضوع للأمر الخلقي ليس خضوعا صوريا
دون مضمون فعلي وإنما امتثال لأمر يحقق مصلحة، فإذا كان واضع الأخلاقية قد جاء من
أجل المحافظة على القيم الضرورية التي تتمثل في المصلحة المرسلة، فإن هذه المصلحة
تعود على الإنسان بحسب ما اقتضته هذه الأخلاقية لا على وفق الأغراض، لأنه لا يمكن
المحافظة على القيم الضرورية خارج الحدود التي حددتها الأخلاقية، ولا يمكن للفرد
أن يتبناها بنفسه دون أن تكون نتيجة أمر
بذلك.
بذلك يمكن
تحديد معنى الامتثال بأنه هو الشعور بمقاومة يحسها الكائن كلما أراد أن يمضي في
اتجاه من الاتجاهات، ولكن هذه المقاومة هي رفع الكائن البشري من مرتبة الحيوانية إلى
مرتبة الإنسان العاقل الذي يسيطر على أهوائه ورغباته ويسير طبقا لما يمليه عليه
العقل، فيكون من الضرورة بمثابة العادة من الطبيعة وهو لا يأتي من الخارج تماما
لأن كل إنسان يبغي مصلحة نفسه وهذا لا يتحقق إلا من خلال مجتمع منظم، وتكون ضرورة
الامتثال أنه ضمان لحماية القواعد التي تنظم العلاقة وتقوي الروابط بين الفرد وبين
الفرد والمجتمع، من هنا يكون الامتثال لأمر يعود على الإنسان بالنفع متوافقا تماما
مع طبيعة الإنسان الذي لا يمكن أن يخضع لأمر لا يحقق من وراءه نفعا.
إن الإنسان
محتاج دائما إلى الاعتقاد بأن ثمة مصلحة سوف تتحقق لا من خلال النية فحسب، بل في
العمل أيضا، وهذا يقوي الأخلاق ويجعلها أمرا تجريبيا مرتبطا بواقع الإنسان، ويجعل
العقل يحبذ الأمر الأخلاقي، لأنه مرتبط عنده بغاية، فيربط بين الجهد الأخلاقي
نتيجة الامتثال وقيمة الغاية التي يسعى إليها. فمن غير المعقول أن يتحمل الإنسان
مشقة وعنتا من أجل امتثال أمر لا يرجى من وراءه فائدة.
وضرورة
الامتثال تنبع من ارتباطه بقوانين يبدو عليها الطابع الاجتماعي فالقانون كما يأمر
فإنه أيضا يقرر. فإذا كان يقول افعل في صيغة الأمر فإن هذا الأمر يأتي في صورة
تقريرية عندما يقول أنك لو أطعت الأمر لحققت مصلحتك، فالقانون إذا كان يلزم، فإنه
في الوقت نفسه يقرر، وإلزام القانون وتقريره هما تعبيران عن موقف طبعي للإنسان،
فالمجتمع والفرد في حالة حركتهما وثباتهما يهدفان إلى غاية واحدة، هذه الغاية
متداخلة ومتشابكة بين الفرد والمجتمع، فإذا كان من الواجب على الفرد أن يعمل من
أجل مصلحة فليس ذلك من أجل الفرد وحسب وإنما من أجل الفرد الذي هو جزء من
الإنسانية كلها، وهذه هي الضرورة التي تحتم على الإنسان أن يمتثل لها والتي
تقتضيها الحياة الأخلاقية المستندة إلى مبادئ اجتماعية[4].
والضبط
الاجتماعي مطلب فطري لا تستقيم الحياة إلا به، ويعتبر القانون الوضعي امتدادا لصيغ
أخرى من الضبط التي عرفتها البشرية، وليس بدعا ولا حكرا على المجتمع الحديث، يقول ابن
خلدون: "إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر...وتم عمران العالم بهم، فلا بد
من وازع يدفع بعضهم ببعض...فيكون ذلك الوازع واحدا منهم، يكون لهم الغلبة
والسلطان، واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى
الملك"[5]
ولنتصور
مجتمعا بلا قوانين، ولا جزاءات، هل يمكن أن يعيش أفراده أو تعيش جماعاته بأمن
وسلام. وإن تصور بعض المذاهب المجتمع الإنساني الذي تزول فيه الدولة باعتبارها
المسئول الأول على النظام والقانون لا يعدو أن يكون تصورا خياليا مثاليا حالما لا
يدعمه الواقع المعاش ولا التاريخ الطويل للإنسانية.
يقول سيد
قطب: "لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى
غير حد ولا مدى، يغذيها شعوره بالتحرير الوجداني المطلق من كل ضغط، وبالمساواة
المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم
المجتمع كما يحطم الفرد ذاته"[6].
ثانيا- النظام
إن الضبط
والتوجيه ظاهرة لازمت المجتمع الإنساني منذ أن وجد الإنسان على الأرض، قال الله تعالى مخاطبا آدم: ﴿ قال اهبطا منها
جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتيكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾ طه، الآية123.
وهي إشارة
واضحة إلى أن الله عندما خلق الإنسان على الأرض لم يتركه هملا وإنما بين له الهدى أي
النظام الذي عليه أن يتبعه ليضبط أفعاله حتى لا يضل ولا
يتيه
ولا يشقى. قال الله تعالى: ﴿
ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ الأنعام،
الآية153. وهو تأكيد على أن هناك سبلا أو نظما بإمكان
الإنسان أن يكتشفها لتنظيم حياته، إلا أن النظام الوحيد الذي يصلح لحياته هو سبيل
الله، وهكذا لم يحدث أن أكتشف أو وجد مجتمع أو جماعة إنسانية مهما كانت بدائية
خالية من نظام اجتماعي تتبعه.
" إن
التصور الإسلامي يقوم على أساس أن هذا الوجود كله من خلق الله، اتجهت إرادة الله
إلى كونه فكان، وأودعه الله قوانينه التي يتحرك بها، والتي تتناسق بها حركة أجزائه
فيما بينها، كما تتناسق بها حركته الكلية سواء، ﴿ إنما قولنا
لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ النمل، الآية 40.
﴿
وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾ الفرقان، الآية2.
إن وراء هذا
الوجود الكوني مشيئة تدبره، وقدرا يحركه، وناموسا ينسقه، هذا الناموس ينسق بين
مفردات هذا الوجود كلها، وينظم حركاتها جميعا، فلا تصطدم، ولا تختل، ولا تتعارض،
ولا تتوقف عن الحركة المنتظمة المستمرة –إلى ما شاء الله- كما أن هذا الوجود خاضع
مستسلم للمشيئة التي تدبره، والقدر الذي يحركه، والناموس الذي ينسقه، بحيث لا يخطر
له في لحظة واحدة أن يتمرد على المشيئة، أو أن يتنكر للقدر، أو أن يخالف الناموس
وهو لهذا كله صالح لا يدركه العطب والفساد إلا أن يشاء الله.
والإنسان من
هذا الوجود الكوني، والقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن ذلك الناموس الذي
يحكم الوجود كله ... لقد خلقه الله- كما خلق هذا الوجود- وهو في تكوينه المادي من
طين هذه الأرض، وما وهبه الله من خصائص زائدة على مادة هذه الطين جعلت منه إنسانا،
إنما رزقه الله إياه مقدرا تقديرا، وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس
الطبيعي الذي سنه الله له رضي أم أبى.
ولو فرضنا أن الإنسان يمكنه أن يعيش بغير دين، فلا يمكن تخيله يعيش بدون
قواعد تنظم حياته ومن شأنها أن تعمل على المحافظة على الضروريات التي قصدها، كما
أن ضمان احترام هذه القواعد لا بد وأن يرتبط بجزاء يتناسب وحرمة هذه القواعد.
فالمتفحص
لنسيج العلاقات الاجتماعية يكتشف أن هناك قواعد عامة وآليات وأساليب مختلفة تنسق
حياة الجماعات والأفراد، وتسهل تفاعل الأفراد بعضهم ببعض،
حيث
تمنع الصدام والاختلاف وتحاصرها، حفاظا على استقرار المجتمع واستمراره.
فجميع
الرسالات الإلهية، وجميع النظم التي وضعها البشر، هي في الحقيقة قواعد ومبادئ
وأصول وإجراءات لحماية المجتمع ورقيه، وبدونها لا يمكن للحياة الاجتماعية أن تستمر
بأمن وسلام.
كل ذلك يثبت
أن الحاجة إلى النظام العام كالحاجة إلى الاجتماع، لهذا يجمع علماء الاجتماع على
أن نظريات علم الاجتماع جاءت كلها عبر تطورها الطويل كمحاولات لتفسير مشكلة النظام
في المجتمع والضبط الاجتماعي هو محورها.
فلا يمكن
للأفراد، إذا ما أرادوا العيش مع بعضهم بأمن وسلام إلا إذا توفر لهم قدر كافي من
التنسيق والتكامل والتعاون.
وعندما ينشئ
الناس التنظيمات –الروابط والمؤسسات– فإنه من الضروري أن يضعوا الضوابط لقواعد العمل
وأساليب العيش الجماعي الخاصة بهم لتنظيم العلاقة فيما بينهم.
ثالثا- القيم:
" إن
الحياة الاجتماعية غير ممكنة إذا لم تكن معتمدة على قيم، ولم يكن المقصود فيها
خدمتها.
فالقيم هي
التي تمهد للإنسان الطريق إلى كل تقدم يصبو إليه، وما يخدمه منها، ويتعلق به ويعمل
من أجله.
إن القيم
تطلب منا التمسك بها من جهة لأنها تعطي لوجودنا بعدا، وقدرا لم يكونا له، وتجعلنا
نرغب في الزيادة منها لأنها تجعلنا نشرف على آفاق الوجود الكامل الحق الذي يجذبنا
إليه ويحملنا على الاستمرار في طلبه والبحث عنه، مهما كانت العوائق والعقبات.
فالإنسان
مهما كان مستواه لا يستطيع أن يعيش بدون قيم، وأن يترك البحث عما هو أسمى في نظره
من القيم الحاصلة له لأن القيمة، في النهاية، هي كل شيء بالنسبة إليه"[7].
"وهكذا
تجري الأمور بصورة عامة فيما يتصل بقضية المجتمع، فان تنظيمه يجري طبقا لمقاييس
وقواعد وهي في حقيقتها قيم خلقية"[8].
رابعا- التنشئة
يمكننا
النظر إلى التنشئة الاجتماعية كعملية اجتماعية من العمليات الاجتماعية الأساسية
المجمعة، بمعنى أنها عملية تساهم في الحفاظ على تكامل المجتمع واستقراره
واستمراره.
إن الإنسان
يأتي إلى هذا الوجود، فيحتضنه مجتمع قائم بالفعل، له معتقداته وقواعده ومعاييره
وقيمه واتجاهاته، وله بناءات اجتماعية عديدة ومنتظمة، تتشكل من الأدوار والمراكز
والوظائف والعلاقات والتفاعلات، ولا يكون لهذا القادم الجديد غير المهيأ اجتماعيا
أي علم بهذه البناءات أو النظم، وبالتالي لا يمكنه أن يتكيف معها تلقائيا وبدون
أية تهيئة.
ولهذا يعمل
المجتمع، من خلال التنشئة الاجتماعية، على غرس معتقداته وقيمه واتجاهاته
ومعاييره في الأفراد ويشكل بذلك أرضيته الإدراكية أو إطاره المرجعي، لكي يعمل كضوء
كاشف يعينه على انتقاء الاستجابات المناسبة للمثيرات في المواقف الاجتماعية
المختلفة.
فمن خلال
التنشئة تنمى قدرات الفرد واستعداداته الفطرية، ويوجهه إلى الخير والصلاح أو إلى
الشر والفساد، ومع ذلك لا نتوقع من التنشئة الاجتماعية أن تجعل من الإنسان خيرا
محضا أو شريرا محضا، أي أن التنشئة لن تمحو استعداد الفرد للخير أو استعداده للشر،
أو أي ركيزة من ركائز فطرته أو حاجة من حاجاته كما أنها لا تخلق فيه أي من ذلك لم
يكن مفطورا عليه.
إن الإنسان
لا يستطيع الحياة منعزلا منفردا، إلا أنه لا يشعر دائما بالحاجات التي تفيد
المجتمع، بل قد يعمل ضدها، ولما كان المجتمع يريد أن يكون سلوك الإنسان ونشاطه كله
منسجما مع مصالحه الجماعية، فقد كان لزاما أن يمارس على الأفراد عملا يضبط استعداداتهم
وينمي قدراتهم ومواهبهم بحيث يصبحوا عناصر صالحة فيه.
وعن طريق
التنشئة الاجتماعية يتدرب الإنسان على الكيفية المناسبة اجتماعيا لتلبية حاجاته،
كما يتعلم ما هو نافع وما هو غير نافع من المواد التي يمكن أن تلبي تلك الحاجات،
أي أنه عن طريق التنشئة تتحدد الخيارات المتاحة للفرد لتلبية حاجاته ومعنى ذلك أن
هناك تحديدا اجتماعيا وتكييفا ثقافيا لوسائل إشباع الحاجات ومادة إشباعها.
وهكذا تنمو
محصلته في معاني الأشياء وتتسع دائرة توقعاته لسلوك الأفراد والجماعات، ويزداد
تعلمه وتدريبه وضبطه لسلوكه فيزداد تفاعله الاجتماعي وتكيفه الثقافي.
خامسا- الحاجة إلى
الضبط.
لما كانت هذه
هي فطرة الإنسان، وتلك هي حقيقة الحياة الاجتماعية، فإن الشرور والرذائل ظواهر
ممكنة الحدوث، ومن هنا كانت الحاجة إلى الضبط ليحفظ للمجتمع استقراره واستمراره،
وللأفراد حقوقهم وأرواحهم، وهو أمر لازم لا مناص منه، يطلبه الناس بإرادتهم
وعقولهم، أو يستجيبون إلى داع يدعوهم إليه.
1- وسائل
الضبط الاجتماعي
2- أنواع
الضبط الاجتماعي
3- فاعلية
الضبط الاجتماعي
4- هيئات
الضبط الاجتماعي
5- أساليب
الضبط الاجتماعي
سادسا- الضبط الاجتماعي
في الإسلامي
الإسلام
هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا تبديل لهذه الفطرة ولا تغيير ولا تحريف،
وإن كان الإنسان بما فطر عليه، من حرية يمكن أن يبتدع في الدين وينسب إليه ما يشاء
من البدع والخرافات، بل يمكن أن يبتكر لنفسه من الأديان ما يشاء، وكل هذا دليل –من
جهة معينة- على فطرة الاعتقاد في الإنسان التي تشير إلى سعيه الدائم لمعرفة ربه
وعبادته، إلا أنه في سعيه هذا قد يضل فيتخذ آلهة كثيرة، وقد يشرك بالله الواحد
الأحد، ويتخذ أصناما وأوثانا ولكنه لا يجد السكينة والسعادة الروحية إلا عندما
يعرف إلهه الحق ويعبده ويلتزم شريعته.
وهكذا
اقتضت مشيئة الله أن يجعل دينه فطرة يهدي به الخلق من بني الإنسان وأن يجعل الروح
تواقة إلى ربها، وأن يجعل النفس مستعدة لفعل الخير أو الشر، وأن يجعل العقل مرشدا
وحكما يميز بين النافع والضار، وهذه هي الفطرة.
فكل
إنسان خلق يوم خلق، وقد ركزت في فطرته دوافع السلوك الإنساني، في جسمه، وفي عقله،
وفي روحه وفي نفسه، في كيانه كله، وهي ركائز وحاجات سيظل الإنسان يسعى لتحقيقها
وإشباعها بالطريق السوي أو بالطريق غير السوي.
ورحمة من
الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة
للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن
موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الأفاق من حوله ... وبذلك يتضح له
الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة، فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة
وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه، وهذه في جملتها هي مشيئة الله
بالإنسان، وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام"[9].
والله الذي
خلق هذا الوجود الكوني وخلق الإنسان، والذي أخضع الإنسان لنواميسه التي أخضع لها
الوجود الكوني .. وهو –سبحانه- الذي سن للإنسان شريعة لتنظيم حياته الإرادية
تنظيما متناسقا مع حياته الطبيعية. فالشريعة –على هذا الأساس- إن هي إلا قطاع من
الناموس الإلهي العام الذي يحكم فطرة الإنسان، وفطرة الوجود العام، وينسقها كلها
جملة واحدة.
والشريعة
التي سنها الله لتنظيم حياة البشر هي من ثم شريعة كونية، بمعنى أنها متصلة بناموس
الكون العام، ومتناسقة معه ... ومن ثم فإن الالتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق
التناسق بين حياة الإنسان، وحركة الكون الذي يعيش فيه ... بل من ضرورة تحقيق
التناسق بين القوانين التي تحكم فطرة البشر المضمرة والقوانين التي تحكم حياتهم
الظاهرة، وضرورة الالتئام بين الشخصية المضمرة والشخصية الظاهرة للإنسان"[10]
من هنا نقول
أن الحياة الاجتماعية لا تستقيم حتى تنتظم وفق منهج الله.
قال الله تعالى: ﴿...فمن
اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم
القيامة أعمى﴾ طه، الآية122-124.
"فالناس
محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم، وحياتهم
وموتهم، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة
لحركتهم الاختيارية ذاتها، وهم لا يملكون تغيير سنة الله في هذا كله، كما أنهم لا
يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه، ومن ثم
ينبغي أن يثوبوا في الجانب الإرادي في حياتهم فيجعلون شريعة الله هي الحاكمة في كل
شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري،
وتنسيقا بين وجودهم كله بشطريه هذين، وبين الوجود الكوني"[11].
ومن
استقرائنا للقرآن والسنة نقف على الحقائق التالية:
v
أن الإسلام يضم القواعد
والمبادئ والأصول الشاملة والثابتة والكاملة التي لا تخرج أطوار الإنسان والمجتمع
في النهاية عن حدودها.
v
أن الإسلام لا يضم
الفروع التي تتغير مع اختلاف الزمان والمكان والأشخاص بل يتركها لاجتهادات المسلين
في إطار مبادئه العامة.
v
أن الإسلام لا يهتم
بتفصيلات جزئية أو فرعية إلا في المسائل التي لا تتغير حكمتها والتي ترى أغراضها
كاملة في كل بيئة، ويريد الله تثبيتها في الحياة البشرية، لأنها ضمان للخصائص التي
يرضاها لهذه الحياة الإنسانية والاجتماعية.
1. ضبط
الدوافع لا كبتها
" ليس
الضبط في الإسلام هو الكبت لدى مدرسة التحليل النفسي، وإنما الضبط هو عملية نفسية،
عقلية وإرادية، وليس مجرد عملية بيولوجية شعورية أو غير شعورية، فقصر الضبط على
الجانب البيولوجي يعني قصر الضبط على الجسم وحده، في حين أن الأصول الصريحة تدل
على أن الضبط هو وظيفة النفس التي هي جماع شخصية الإنسان بما في ذلك عقله وإرادته.
يقول الله تعالى: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد
خاب من دساها﴾.
ويشبه ابن
القيم ضبط الدوافع الفطرية بالنهر الذي يهدد حياة قرية مجاورة، ويختلف أهلها حول
ما يجب عمله لدرء خطره، الفئة الأولى ترى ترك النهر على ما هو عليه، وهذه سوف
يجرفها النهر عاجلا أو آجلا، وهذه الفئة حالها كحال من يسمح للدوافع الفطرية
بالتعبير عن نفسها بغير ضبط ولا تهذيب.
وترى الفئة
الثانية درأ الخطر عن طريق سد منابع النهر تماما، وهؤلاء حالهم كحال من يكبت
الدوافع الفطرية التي هي غريزة في خلق الإنسان وفطرته، وكبتها لا يعني القضاء على
وجودها ولذلك تظل تتحين الفرص للظهور والإشباع، فإذا ما قاومها الإنسان طويلا فإنه
قد تورثه الأمراض النفسية جسمية وعقلية.
وتعتقد
الفئة الثالثة أن درأ الخطر يكون عن طريق تحويل مجرى النهر إلى مكان آخر صالح
للزراعة وهذا هو الاقتراح الذي ينجي القرية من الغرق، فقد حولوا المياه (أو
الدوافع الفطرية) عن طريق الضبط إلى قوة مثمرة خيرة.
وهكذا نرى
أن هناك فرقا جوهريا بين الكبت الذي يمنع الدوافع الفطرية من التعبير عن نفسها مما
يؤدي إلى الأمراض النفسية، وبين الضبط الذي يوجه الدوافع إلى التعبير عن نفسها
بطريقة فيها خير الإنسان والناس جميعا.
إن العقل هو
الأداة الأساسية في النفس للضبط، ... وتمده من الداخل النفس اللوامة لما فطرت عليه
من كراهية الفجور والشر، وتمده من الخارج الشريعة والتربية السليمة "[12].
إن الجرائم
الكبرى التي يعاقب عليها الإسلام هي القتل، والسرقة، والزنا،
وشرب الخمر، ثم الردة، والإفساد في الأرض، وهي التي ورد
ذكرها في هذه الآيات والأحاديث:
أ.
﴿ ولا تقتلوا النفس
التي حرم الله إلا بالحق﴾.
- ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾.
- ﴿وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن
بالسن والجروح قصاص﴾.
- ﴿ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا﴾.
- (من قتل
عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن أخصى عبده أخصيناه) حديث.
ب.
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله﴾.
ج.
﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما
رأفة في دين الله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من
المؤمنين﴾. وقضت السنة بالرجم لا بالجلد في حالة الإحصان، أي الزواج.
د. (من شرب الخمر فاجلدوه،
فإن عاد فاجلدوه) حديث.
ه.
(من بدل دينه فاقتلوه) حديث.
- (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه) حديث.
و.
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن
يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ﴾.
سوف يقتصر
حديثنا على معنى من معاني الحدود والذي يمثل جانب التشريع العقابي في
المجتمع إلا أنه لا يمثله منفردا وإنما يوجد بجانبه القصاص والتعزير،
وكل منهم يمثل جزءا مكملا للإطار العام للتشريع العقابي الإسلامي بما يتميز به من
خصائص.
الحدود وإن اتفقت
مع القصاص في أنهما عقوبات مقدرة للاعتداء على مصالح اعتبرت حقا لله تعالى بالنص
إلا أنها تختلف عنها في أنهما لا يجوز العفو فيها ببدل أو بغير بدل لأنها مقدرة
للاعتداء على مصالح اعتبرت حقا للمجتمع أساسا وحق المجتمع لا يقبل الإسقاط.
القصاص فهو عقوبة
الدماء بشكل عام أي أن الجانب الفردي فيها يغلب على جانب الجماعة لذلك فهي تقبل
التنازل عنها إلى أخذ الدية أو حتى العفو المطلق عن الجاني.
أما نقطة
الافتراق الثانية بينهما فترجع إلى أن عقوبات الحدود لا يلاحظ فيها المساواة بين
ذات الفعل والعقوبة وإنما يلاحظ فيها المناسبة بين الفعل وأثره الضار على الجماعة
بعكس القصاص الذي يكون العقاب فيه قائما أساسا على المساواة بين الجريمة وعقوبتها.
والقصاص والحدود معا يختلفان عن التعازير في أنهما عقوبات مقدرة منصوص عليها من
الشارع حقا لله تعالى.
التعازير فهي عقوبات
غير مقدرة من الشارع بل هي متروكة لولي الأمر ليقدرها وفقا للظروف المتغيرة بما
يكفل حماية أمن وسلامة المجتمع في ضوء المبادئ الأساسية للإسلام.
وعليه
نستطيع أن نقول أن النظام الجنائي الإسلامي يضم مجموعة العقوبات التي تسمى بجرائم
الحدود والقصاص وقد شرعت لحماية قدر ثابت من المصالح التي اعتبرها الشارع أساسية
لوجود أي مجتمع لا تتغير ولا تتبدل بتغير الأمكنة أو الأزمنة حيث خصها الله سبحانه
وتعالى بتحديد قدر العقوبة عليها نصا. ولم يترك أمر الحفاظ عليها يتولاه البشر حتى
لا يخطئوا الوسيلة التي تؤدي إلى صيانة المصالح التي أرادها الله.
وتدل النصوص
القرآنية على أن تلك المصالح الأساسية تدور حول الإنسان في حياته وماله وأيضا في
كرامته ومعنوياته وتحفظ له نسله قويا عزيزا. وإلى جانب هذه المصالح الأساسية توجد
مصالح أخرى مستوجبة للحماية الجنائية تبعا لتجدد وتطور المجتمعات الإنسانية وهي ما
يشكل الاعتداء عليها أو الأضرار بها جرائم التعازير وهي ما ترك أمر تقديرها لولاة
الأمور يحددونها وفقا لما تستوجبه المصلحة الخاصة بكل جماعة في إطار المبادئ
الأساسية للمجتمع الإسلامي.
حقائق نستخلصها من
معالجة التصور الإسلامي لموضوع الضبط الاجتماعي
1- إن
أفعال الإنسان تتحدد بناءا على نيته ( الدوافع والحاجات والأهداف).
2- تتحدد
أهداف الإنسان وحاجاته ولهذا فهو مضطر لتحقيقها إلى ترتيب أولويات.
3- إن
تحقيق الأهداف وإشباع الحاجات يتطلب اعتماد وسائل وفي كثير من الحالات إلى تعاون
مع الآخرين.
4- الإنسان
عنده الاستعداد لقبول التوجيه، واكتساب المعايير والقيم التي تحكم اختياره للأهداف
وطرق إشباعه لحاجاته.
5- إن
علاقات الإنسان متعددة، فله علاقة مع نفسه، ومع غيره من الأشخاص، ومع الطبيعة أو
العالم، ومع الغيب، وهو في تفاعل دائم نسبيا مع هذه الأطراف، وهذه العلاقة في حاجة
إلى توجيه دائم وإلا تعرضت إلى الانحراف.
6- إن
هذا المناخ الإنساني الاجتماعي يتحقق من خلال:
·
ما للإنسان من دوافع
وحاجات فطرية تلح عليه مثل الحاجة إلى الانتماء وتحقيق الذات، والتي إذا لم تشبع
بالكيفية المناسبة اجتماعية وفطرية قد تنحرف.
·
ما للإنسان من
استعدادات ومنها الاستعداد لفعل الخير والشر، الاستعداد لقبول التوجيه.
7- تتدخل
التنشئة الاجتماعية من أجل تهيئة الفرد لتمثل القيم والمعايير والكيفية التي بها
ومن خلالها يستجيب لدوافعه وليشبع الفرد حاجاته ويحقق أهدافه.
8- وقد
تفشل التنشئة الاجتماعية لسبب من الأسباب في الحفاظ على استقامة الفرد فيتدخل
الضبط الاجتماعي لمواجهة الانحراف.
9- إن
الوجود الاجتماعي هو جزء من هذا العالم، وهو لا شك محكوم بنظام دقيق محكم تسري فيه
سنن الله في الخلق كله. وإذا كان العالم كله يخضع لهداية الله العامة كما يقول
العلماء المسلمون فإن الإنسان بحكم تكوينه، بحكم فطرته، بما له من حرية نجده يخضع
لهداية الله الخاصة.
إن حاجة
الناس إلى التعاون لمجابهة المشكلات التي تعيق تحقيق أهدافهم الخاصة وتلبية
حاجاتهم المادية والفطرية تضطرهم لقبول تعديل سلوكهم بما يوافق الهيئة الاجتماعية
ويمتثلون للقيم والمعايير التي تنشأ عنها.
10-
يمارس الضبط الاجتماعي
من خلال:
·
الثواب.
·
العقاب.
11-
من فاعلية الضبط
الاجتماعي أن يكون منبثقا من النظام الاجتماعي وليس دخيلا عنه.
12-
لا يمكن للضبط
الاجتماعي أن يحقق أهدافه إلا إذا أخذ بعين الاعتبار فطرة الإنسان بكل مكوناتها
والواقع الاجتماعي والكوني برمته، وإن الدراسة العلمية ومشاهدة الواقع الاجتماعي
تكون فعالة عندما تعتمد على الوحي في جوانب الغيب التي لا تخضع للمشاهدة.
13-
ومن الحقائق الهامة
التي يجب النظر إليها أن هناك من الضوابط التي تتخذ صورة الدوام والثبات في شكلها
ومضمونها وطريقة تنفيذها، لثبات أهدافها ومصدرها.
14-
وهناك من الضوابط التي
تظل متغيرة، حسب تغير الظروف ومتطلبات الحياة المتجددة.
15-
والحقيقة الأخرى أن
الضبط الاجتماعي يمثل نظاما مواكبا للوجود الإنساني، فهو ليس مستحدثا وناشئا
بالصدفة أو الابتكار، وإنما هو نظام مكمل للجانب الفطري بالرغم من أنه أخذ أشكالا
عدة وصورا مختلفة حسب الزمان والمكان.
16-
لقد ارتبط الضبط
الاجتماعي دائما بأحكام القيمة والمعايرة التي تحدد ما هو صحيح مقبول أو خطأ
مرفوض، كل ما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه، فيثاب على الأول ويعاقب على الآخر.
17-
إن الضبط الاجتماعي كان
دائما مرتبطا بأهداف خاصة وعامة. وأهمها سعادة الإنسان، واستقرار حياته
واستمرارها.
نظرية الضبط
عند الماوردي
يقول الماوردي:
"واعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين:
أولهما: ما
ينتظم به أمور جملتها، والثاني: ما يصلح به حال كل واحد من أهلها، فهما شيئان لا
صلاح لأحدهما إلا بصاحبه".
".....
لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلال أمورها، لن يعدم (يترك) أن يتعدى إلى
فسادها، ويقدح فيه اختلالها، (يصيبه شراره) لأنه منها يستمد، ولها يستعد، ومن فسدت
حاله مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها، لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا،
لأن الإنسان دنياه نفسه، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا
فسدت عليه، لأن نفسه أخص، وحاله أمس، فصار نظره إلى ما يخصه مصروفا، وفكره على ما
يمسه موقوفا".
لقد حاول الماوردي
أن يوضح هذين المبدأين الأساسيين من خلال حديثه عنهما، بذكر ما يصلح به كل منهما،
موضحا الدعائم الأساسية التي يقوم عليها الضبط الاجتماعي.
أولا: قواعد
الضبط الاجتماعي الخاصة بالمجتمع، والمقومات الأساسية التي يقوم عليها
هذا الضبط:
يقول الماوردي:
"اعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة
أشياء، هي قواعدها وإن تفرعت، وهي: دين منيع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام،
وخصب دائم، وأمل فسيح".
القاعدة
الأولى:
الدين المنيع فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير
قاهرا للسرائر، زاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خلوتها، نصوحا لها في ملماتها،
وهذه الأمور لا يوصل بغير الدين إليها، ولا يصلح الناس إلا عليها، فكان الدين أقوى
قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها، ولذلك
لم يخل الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعي، واعتقاد ديني ينقادون
لحكمه، فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره، فلا تنصرف بهم الأهواء.
القاعدة
الثانية:
السلطان القاهر والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها سبعة أشياء:
أحدهما: حفظ الدين
من تبديل فيه، والحث على العمل به، من غير إهمال.
الثاني: حراسة
البيضة، والذب عن الأمة، من عدو في الدين أو باغي نفس أو مال.
الثالث: عمارة
البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها.
الرابع: تقدير ما
يتولاه من الأموال بسنن الدين، من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
الخامس: معاناة
المظالم والأحكام، بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة في فصلها.
السادس: إقامة
الحدود على مستحقيها، من غير تجاوز فيها ولا تقصير عنها.
السابع: اختيار
خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها والأمانة عليها.
القاعدة
الثالثة:
العدل الشامل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به
الأموال، ويكثر معه النسل، ويأتي به السلطان، فقد قال الهرمزان لعمر حين رآه وقد
نام مبتذلا "عدلت فأمنت فنمت".
وليس أسرع
في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق، من الجور لأنه ليس يقف على حد، ولا ينتهي
إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل ... فإذا كان العدل من إحدى
قواعد الدنيا، التي لا انتظام إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه وجب أن يبدأ بعدل
الإنسان في نفسه، ثم بعدله في غيره ... ولست تجد فسادا إلا وسبب نتيجته الخروج فيه
عن حال العدل، إلى ما ليس بعدل من حالتي الزيادة والنقصان، فإذن لا شيء أنفع من
العدل، ولا شيء أضر مما ليس بعدل.
القاعدة
الرابعة:
الأمن العام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس فيه
الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة.
القاعدة
الخامسة:
الخصب الدائم تتسع النفوس به في الأحوال، ويشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، فيقل
في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع، وتكثر المؤاساة
والتواصل، وذلك أقوى الدواعي لصلاح الدنيا، وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى
الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء".
القاعدة
السادسة:
"أمل فسيح"، يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه، ويبعث على
اقتناء ما ليس يؤمل في دركه بحياة أربابه، ولولا أن الثاني يرتفق (ينتفع) بما
أنشأه الأول، حتى يصير مستغيثا، لافتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من
منازل السكنى، وأراضي الحرث، وفي ذلك من الإعواز(الأشكال) وتعذر الإمكان، ما لا
خفاء به، فلذلك ما رفق الله تعالى بخلقه من اتساع الآمال، حتى عمر به الدنيا، فتم
صلاحها، وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن، فيتم الثاني ما أبقاه الأول من
عمارتها، ويرم الثالث ما أحدثه الثاني من شعتها، لتكون أحوافا على الإعصار ملتئمة،
وأمورها على ممر الدهور منتظمة، ولو قصرت الآمال، ما تجاوز الواحد يومه، ولا تعدى
ضرورة وقته، ولكانت تنتقل إلى من بعده خرابا، لا يجد فيها بلغة، ولا يدرك منها
حاجة، ثم تنتقل إلى من بعد بأسوأ من ذلك حالا، حتى لا ينمي بها نبت، ولا يمكن فيها
لبيت، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأمل رحمة من الله لأمتي،
ولولاه ما غرس غارس شجرا ولا أرضعت أما ولدا" رواه الخطيب عن أنس رضي الله
عنه.
وهذا دليل
على أن الماوردي "كان مدركا تمام الإدراك لأهمية التغير الاجتماعي،
فهو لا يبحث الضبط الاجتماعي من وجهة النظر الأستاتيكية، وإنما يدرس المجتمع من
وجهة النظر الديناميكية.
هذه هي
القواعد الستة التي يعتبرها الماوردي ضرورة للضبط الاجتماعي الخاصة
بالمجتمع والتي تصلح بها أحوال الدنيا، وتنتظم أمور بجملتها، فإن كملت فيها كمل
صلاحها، وبعيد أن يكون أمر الدنيا تاما كاملا، وأن يكون صلاحها عاما شاملا، لأنها
موضوعة على التغير والفناء منشأة على التصرم (الانقطاع) والانقضاء، وبحسب ما اختل
من قواعدها، يكون اختلالها وفسادها.
ثانيا: قواعد
الضبط الاجتماعي الخاصة بالفرد
فقد حددها الماوردي
بثلاث قواعد تشكل بمجموعها هذا المبدأ الجوهري في الإصلاح، فهو يقول: "وأما
ما يصلح به حال الإنسان فيها فثلاثة أشياء، وهي قواعد أمره، ونظام حاله، وهي: نفس
مطيعة إلى رشدها منتهية عن غيها، وألفة جامعة تنعطف القلوب عليها ويندفع
المكروه لها، ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم عوده بها".
القاعدة
الأولى:
التي هي "نفس مطيعة" فلأنها إذا أطاعته ملكها، وإذا عصته ملكته ولم
يملكها، ولم يملك نفسه، فهو بأن لا يملك غيرها أحرى، ومن عصته نفسه كان بمعصيته
غيرها أولى ... وطاعة نفسه تكون من وجهين: احدهما: نصح، والثاني: انقياد. أما
النصح فهو أن ينظر إلى الأمور بحقائقها، فيرى الرشد رشدا ويستحسنه، ويرى الغي غيا
ويستقبحه، وهذا يكون من صدق النفس إذا سلمت من دواعي الهوى، ولذلك قيل: من تفكر
أبصر. أما الانقياد فهو أن تسرع إلى الرشد إذا أمرها، وتنتهي عن الغي إذا جزرها،
وهذا يكون من قبول النفس إذا كفيت منازعة الشهوات.
القاعدة
الثانية:
التي هي الألفة الجامعة، فلأن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعم، فإذا لم يكن
ألفا مألوفا، تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم
تصف له مدة، فإذا كان ألفا مألوفا، انتصر على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت
نعمته منهم، وصفت مدته عنهم، وإن كان صفر الزمان عسرا وسلمه خطرا ... وإذا كانت
الألفة بما أثبت تجمع الشمل، وتمنع الذل، اقتضت ذكر أسبابها.
وبعد ذلك
يقرر الماوردي خمسة عوامل تقف وراء تقوية هذه النزعة (الألفة) يقول في ذلك:
"وأسباب الألفة خمسة، وهي: الدين، النسب، المصاهرة، المودة، والبر.
"فأما
الدين وهو أول أسباب الألفة، فلأنه يبعث على التناصر، ويمنع من التقاطع
والتدابر....".
"وأما
النسب وهو الثاني من أسباب الألفة، فلأن تعاطف الأرحام، وحمية القرابة، يبعثان على
التناصر والألفة، ويمنعان من التخاذل والفرقة، أنفة من استعلاء الأباعد على
الأقارب، وتوقيا من تسلط الغرباء الأجانب...".
"وأما
المصاهرة وهي الثالث من أسباب الألفة فلأنها استحدثت مواصلة، وتمازج مناسبة، صدرا
عن رغبة واختيار، وانعقدا عن خبرة وإيثار، فاجتمع فيها أسباب الألفة ومواد
المصاهرة، قال الله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا
إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة.." الروم الآية 21. يعني بالمودة المحلة،
وبالرحمة الحنو والشفقة، وهما أوكد أسباب الألفة".
"وأما
المؤاخاة بالمودة وهي الرابع من أسباب الألفة، فلأنها تكسب بصادق الميل إخلاصا
ومصافاة، وتحدث بخلوص المصافاة وفاء ومحاماة وهذا أعلى مراتب الألفة، ولذلك آخى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه لتزيد ألفتهم ويقوى تضافرهم وتناصرهم.
(المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة) وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعصمة في البلاء".
وأما البر
(التواصل الاجتماعي) وهو الخامس من أسباب الألفة، فلأنه يوصل إلى القلوب ألطافا،
ويثنيها محبة، ولذلك تدب (دعا) الله سبحانه وتعالى إلى التعاون به، وقرنه بالتقوى
لقوله في سورة المائدة من الآية 2:
"وتعاونوا على البر والتقوى"، لأن له في التقوى رضا الله تعالى وفي البر
رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس، فقد تمت سعادته وعمت نعمته ...
القاعدة
الثالثة:
فهي المادة الكافية لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى (يتجرد) منها بشر، فإذا عم
المادة التي هي قوام نفسه، لم تدم له حياة، ولم يستقم له دين، وإذا تعذر شيء منها
عليه لحقه من الوهن في نفسه، والاحتلال في دنياه، بقدر ما تعذر من المادة عليه،
لأن الشيء القائم بغيره، يكمل بكماله، ويختل باختلاله، ثم لما كانت المواد مطلوبة
لحاجة الكافة إليه، أعوزت بغير طلب، وعدمت لغير سبب، وأسباب المواد مختلفة، وجيات
المكاسب متشعبة، ليكون اختلاف أسبابها علة الإتلاف بها وتشعب جياتها، توسعة
لطلابها، كي لا يجتمع على سبب واحد، فلا يلتئمون أو يشتركون في جية واحدة فلا
يكتفون، ثم هداهم إليها بعقولهم، وأرشدهم إليها بطباعهم، حتى لا يتكلفوا ائتلافهم
في المعايش المختلفة فيعجزوا، ولا يعانوا بتقدير موادهم بالمكاسب المتشعبة،
فيختلوا، حكمة منه سبحانه وتعالى أطلع بها على عواقب الأمور، وإذ قد تقررت أسباب
المواد بما ذكرناه، فنصف حال كل واحد منها بقول موجز:
أما الأول
من أسبابها وهي الزراعة: فهي مادة أهل الحضر، وسكان الأمصار والمدن،
والاستمداد بها أعم نفعا، وأوفى فرعا.
وأما الثاني
من أسبابها هو نتاج الحيوان: فهو مادة أهل الفلاوات، وسكان الخيام، لأنهم لما لم
تستقر لهم دار، ولم تضمهم أمصار، افتقروا إلى الأموال المتنقلة معهم، وما لا ينقطع
نماؤه بالظعن والرحلة، فاقتنوا الحيوان، لأنه يستقل في النقلة بنفسه، ويستغنى عن
العلوقة برعيه ثم هو مركوب ومجلوب فكان اقتناؤه على أهل الخيام أيسر، لقلة مؤنته
وتسهيل الكلفة به، وكانت جدواه عليهم أكثر، لوفور نسله، واقتيات رسله، إلهاما من
الله لخلقه، في تعديل المصالح فيهم، وإرشادا لعباده، في قسم المنافع بينهم.
[2]- محمد السيد الجليند: قضية الخير والشر- مطبعة الحلبي،
القاهرة، مصر، ط2، 1981، ص281.
[4] -
د. فهمي محمد علوان: القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامي-
الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، مصر،
1989، ص ص 133-136.
[5] - ابن
خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون- مهد لها علي عبد
الواحد وافي، لجنة البيان العربي، الإسماعيلية، مصر، ط2، 1965، ص422.
[7] - الربيع ميمون: نظرية القيم في الفكر المعاصر- الشركة
الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980، ص
ص 326-327.
[8]
- مالك بن نبي: ميلاد
مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية- ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، لبنان،
ط2، 1974، ص49.
[9] - علي أحمد مذكور: منهج التربية
في التصور الإسلامي- دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1990، ص ص 143-147.
[12] - علي أحمد مذكور: منهج التربية
في التصور الإسلامي- دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1990، ص ص 159-160.
[14] - عبد
القادر عودة: التشريع الجنائي في الإسلام- دار المعارف، القاهرة ، مصر، ط5، 1968 ، ص ص 444-740.
السلام عليكم
ردحذفجازاكم الله خيرا / بلجود لخضر /المسيلة- الجزائر /